أسرارالدم
عرف الإنسان منذ القديم ارتباط الدم بالحياة.
فالدم المحمّل بالأكسجين يغذي وينظف ويدافع عن أنسجتنا.
من أين يستمد الدم حيويته هذه؟
كان لا بد من انتظار القرن السابع عشر
لمعرفة الطبيعة الحقيقية للدم،
عندما اخترع فان لوفنهوك المجهر،
وتم عندها اكتشاف الكريات الحمراء للمرة الأولى.
أما الوظائف الرئيسية للدم وعناصره
فلم تبدأ معرفتها إلا مع القرن التاسع عشر.
ولم تنته حتى الآن مسألة استكشاف أسرار الدم.
فهو سائل حيوي يضخه القلب على امتداد
نحو 200 كلم من تفرعات الأوعية الدقيقة في الجسم،
بحيث يروي كافة أنسجته وأعضائه ويغذيها وينظفها ويدافع عنها.
فهو يقدم عبر الأوعية الدقيقة للخلايا الأكسجين والغلوكوز
فتحرقهما لتستخلص منهما الطاقة.
وخلال فترة راحة الجهاز الهضمي
فإنه يوزع للخلايا الغذاء الضروري لأيضها.
وعلى سبيل المثال يستهلك دماغنا
وحده 20% من الأكسجين الذي يحمله الدم.
وخلال مروره يحمل الدم معه غاز الفحم ويحرره في الرئتين،
كما وبقايا الخلايا التي يفرغها باتجاه الكليتين.
كذلك فهو ينظم تبادلات الأملاح بين أنسجة المتعضية،
مؤمناً بذلك توزعاً جيداً للضغط بين الأغشية الخلوية.
وترتبط أيضاً بالدم دفاعات جسمنا.
فهو يملك جملة من المدافعين الذين يتحفزون
ما أن تظهر في الجسم
البكتريا أو الفيروسات أو الطفيليات
أو أية خلية غير طبيعية.
ويؤمن الدم نفسه مراقبة وتوزع جريانه.
وفي حالة انجراح أحد الأوعية الدموية
فإنه يقوم بإصلاح الجرح.
وهو ليس مجرد مزيج من الخلايا،
بل وهو يصنع العديد من الجزيئات المعلوماتية
كالهرومونات أو الرسائل الكيميائية.
أما الأوعية الدموية فهي ليست مجرد أوعية عطالية،
فسطحها حساس ونشط ومتفاعل جداً.
وهو ينظم مرور الغذاء وخلايا الدفاع
ويبادل أيضاً الجزيئات الرسولة مع الدم.
إن الوظائف الرئيسية الخمس التي يقوم بها الدم
وهي التنفس والمناعة والترميم والتغذية والإتصال
تجعل منه عضواً بأهمية القلب أو الدماغ في الجسم.
مما يتألف الدم ؟
إن الرجل الذي وزنه 70 كلغ يحمل 5 ليترات من الدم،
في حين تحمل المرأة 4 ليترات منه.
وأكثر من نصفه تقريباً هو سائل شفاف يسمى البلازما.
وتتألف البلازما بشكل خاص من الماء
الذي يحتوي على أملاح معدنية
مثل الكالسيوم والصوديوم والمغنيزيوم والبوتاسيوم،
هذا إضافة إلى السكر والجزئيات الرسولة كالهرومونات.
ويوجد في كل ليتر من الدم 70 غ من البروتينات.
والألبومين أو الزلال الذي يحفظ الماء كالإسفنجة
هو الأكثر انتشاراً بينها،
في حين أن الكريات المناعية أو الجسيمات المضادة
تساهم في الدفاع المناعي.
وهناك بروتينات أخرى تنقل الشحوم أو تتدخل في التخثر.
وعلى الرغم من كونه سائلاً لكنه بالنسبة لعلماء البيولوجيا
فإنه نسيج منظم جيداً تتحرك فيه خلايا عديدة.
فالكريات الحمر هي أدوات تنفسنا.
ولدينا منها من أربعة إلى خمسة ملايين
في كل متر مكعب من الدم.
إن هذه الأقراص المزدوجة التقعر
يتراوح قطرها بين 7 و 8 إنغستروم.
وهي لا تملك نوى.
فهي عبارة عن أكياس من الهموغلوبين،
وهي ملوِّن يشتمل على الحديد،
يلونها وينقل لها الإكسجين الذي يلتقطه ويتركه بسهولة.
إن شكلانية وبنية غشائها
يمنحها الصلابة والمرونة والقدرة على التشوه
بحيث تكون قادرة على المرور من أدق الأوعية الدموية.
وأخيراً فإن هذا الغشاء يملك بروتينات خاصة
تحدد الإنتماء إلى إحدى الزمر الدموية.
أما الكريات البيض فهي أقل بكثير في الجسم الإنساني،
وهي الأخصائية بالدفاع المناعي.
ويوجد في قطرة الدم منها نحو ما بين
4 و8000 كرية بيضاء في كل مملمتر مكعب.
وهي عائلة واسعة من الخلايا الحقيقية
التي تملك نوى وتستطيع الولوج عبر الأغشية.
والكريات البيض مختصة.
فمنها ما يعمل على تدمير الأجسام الغريبة،
ومنها ما يعمل على تحليل كل شيء.
والكريات البيض تتدخل باستمرار بفضل إشارات كيميائية.
وأخيراً فهناك في الدم الصفيحات،
وهي المسؤولة عن وقف النزيف.
وهي أصغر خلايا الجسم
إذا لا يتعدى قطرها 1 إلى 2 إنغستروم.
ونجد بين 150000 و 400000
من هذه الصفيحات في 1 ملمتر مكعب من الدم.
ولهذه الخلايا الدقيقة بنية معقدة
وتملك وظائف التصاق وانقباض.
وعندما يحصل جرح في جدار أحد الأوعية الدموية
فإنها تتجمع وتلتصق وترمم الجرح.
كيف يتجدد الدم
في حالة حدوث النزف؟
إن الدم مثل كافة أعضائنا،
أو بالأحرى مثل كافة خلايانا، يهرم ويموت.
فالكرية الحمراء تحيا نحو ثلاثة أشهر،
والصفيحة الدموية نحو عشرة أيام.
وحدها بعض الخلايا الدموية
مثل اللمفاويات من النوع
T
يمكن أن تحيا لعدة شهور أو سنوات.
فلا بد بالتالي من تجدد فائق الإنتظام لهذه الخلايا.
والأمر المدهش أن الدم ليس هو الذي يجددها.
فعند الجنين يقوم الكبد والطحال بذلك.
أما عند البالغ فإنها تتولد وتتمايز باستمرار في نقي العظام.
والإستثناء الوحيد هو أن الخلايا اللمفاوية
T
تتمايز في الغدة الصعترية
وهكذا فإن عظامنا تنتج باستمرار الدم الجديد.
ويبدأ الأمر بخلية أساسية تسمى متعددة الكمون
لأنها يمكن أن تولد كافة أنواع الخلايا الدموية.
ثم يلي ذلك تتالي مراحل مختلفة
تكتسب خلالها الخلايا اختصاصها.
ويخضع مصير كافة هذه الخلايا لجزيئات مثل معاملات النمو.
فأحد الهرمونات مثلاً هو الـ
EPO
ينظم انتاج الكريات الحمر.
وقبل أن تدخل هذه الأخيرة إلى الدم تتخلى عن نواتها.
ويستغرق الأمر نحو أسبوع واحد بالنسبة للكريات الحمر
ونحو أسبوعين بالنسبة للكريات البيض.
أما ولادة الصفيحات فهي مدهشة.
فبداياتها لا تولد خليتين ناجمتين عنها.
بل إنها تضاعف محتواها من الحمض الريبي النووي
دون أن تنقسم.
فتصبح بذلك خلية عملاقة لا تملك فقط حصتين من الصبغيات،
بل و4 و 8 و 16 و 32 بل وحتى 64 منها.
وينتهي الأمر بهذه الخلية المتضخمة
على شكل أخطبوط إلى الإنقسام لتعطي كمية من الصفيحات.
يرتبط الدم ارتباطاً وثيقاً
بالحياة في الفكر الإنساني.
ما الذي يحدث بالضبط عندما نُجرح،
وكيف يعالج الجرح نفسه؟
عندما يحدث جرح في الجسم الإنساني
فإن الوعاء الدموي المتأذي ينعقد.
وسرعان ما تبدأ مرحلة أولى
يسميها البيولوجيون المسمار الصفيحي.
فالدم يتألف بشكل رئيسي من بلازما
ومن كريات حمر وبيض ومن صفيحات.
والصفيحات في هذه الحالة تتجمع
وتلتصق على الجرح
وتتغير بشكل مدهش.
فهي تلتصق على بعضها بعضاً
مشكلة سداً سرعان ما يصبح كثيفاً.
إذ أنها بفضل المواد التي تفرزها تستحضر صفيحات أخرى
بحيث تكون كافية لترميم الجرح البسيط في وعاء دموي بسيط.
أما بالنسبة للوعاء الدموي الأعرض،
فتبدأ مرحلة ثانية ألا وهي آلية التخثر،
وهي أكثر تعقيداً.
وتدخل فيها عدة أنواع من الجزيئات:
عدد من الإنزيمات،
ومعاملات تخثر ومضادات للتخثر.
وبشكل مبسط فإن البلازما الدموية
تحتوي على بروتين قابل للإنحلال.
لكنه بتأثير أحد أنواع الإنزيمات يصبح غير قابل للإنحلال.
وعندها تعمل تراكما هذه المادة على تدعيم المسمار الأولي
المتشكل من الصفيحات مما يأسر الخلايا الدموية.
وبعد أن تتم المعالجة تقوم إنزيمات أخرى
بتدمير أو تحليل هذا السد.
ومن هنا نرى خطورة تخلخل التوازن بين التخثر والتحلل.
فإذا كان التخثر سريعاً جداً
فيمكنه أن يغلق مجرى الوعاء الدموي،
وإذا كان بطيئاً جداً فإن النزف يصبح مستمراً وخطراً.
.
ما الذي يحدث في حالة
فقدان عدد كبير من الخلايا الدموية؟
أو في حالات فقر الدم؟
إن بعض السرطانات ومعالجاتها،
والفيروسات والأمراض الوراثية
أو حتى بعض الأدوية يمكن أن تحرض هذه الحالات من فقر الدم..
أما نتائجها فتتعلق بنمط الخلايا المتضررة أكثر في الدم.
وحالات فقر الدم ترتبط بشكل أساسي
بانخفاض في نسبة الهيموغلوبين الطبيعية،
الأمر الذي يرتبط عموماً بنقص عدد الكريات الحمر الجارية في الدم.
والمصاب بفقر الدم يكون شاحباً ومصاباً بوهن وضعف.
والأسباب الرئيسية لفقر الدم هو النزف أي فقدان الحديد
والإلتهابات التي تؤدي إلى اضطرابات
في استقلاب الحديد وقلة الغذاء.
وفي الحالة الشائعة لفقر الدم،
الناتج عن نزف أو عمل جراحي،
يعطى المريض كمية من الحديد.
أما الأنواع الأخرى منه التي تصيب الكريات البيض
أو الصفيحات فإن أحد أسبابه الرئيسية
هي عدم كفاية نقي العظام الذي يولد الدم.
كيف تم اكتشاف الزمر الدموية ؟
وكيف أصبح بالإمكان نقل الدم بشكل آمن اليوم ؟
في القرن السابع عشر جرت محاولات كثيرة لنقل الدم
كان يبوء معظمها بالفشل وبالموت.
وبقي الأمر كذلك إلى مطلع القرن العشرين،
عندما لاحظ كارل لانستاينر
أن خلط الكريات الحمر من دم شخص مع المصل
من دم شخص آخر كان يؤدي إلى تكتلات
كانت تفسد عمليات نقل الدم.
وهكذا كان أول من اكتشف أولى الزمر الدموية،
وهي المجموعة المسماة
AOB.
وسرعان ما عرف العلماء أن البشر يتوزعون
في أربع مجموعات
أو زمر دموية
بحسب ما يملكون مولد المضاد آ أو ب
أو مولدي المضاد آ وب
أو لا يملكون أياً منها
وهم الذين يعرفون بالزمرة
O.
وفي الحقيقة يوجد لهذه الزمرة الأخيرة
مولد مضاد هو
H.
وعند جميع البشر توجد مضادات للأجسام.
وتوجَّه هذه المضادات ضد مولدات مضادات الزمر الأخرى.
ومضادات الأجسام هذه طبيعية
لأنها تتولد منذ فترة مبكرة من الحياة.
ومع تقدم العلم اليوم أصبحت تُعرف تقسيمات أخرى
أكثر تعقيداً للزمر الدموية،
لكن هذه التقسيمات لا تحد بل على العكس
تساعد على القيام بعمليات نقل الدم بشكل آمن.
وفي الحقيقة فقد تم تحقيق تقدم كبير في مجال نقل الدم،
وبخاصة منذ بداية التسعينات.
ومع ذلك تظل هناك بعض الإحتمالات النادرة
الناتجة عن كون الأطباء لا يعرفون بعد
مثلاً كافة أنواع الفيروسات الموجودة.
ولهذا طرح بعضهم إمكانية تصنيع الدم الصناعي،
لكن هذه الفكرة لم تلق القبول بعد
وبخاصة أن العلماء لا يعرفون تماماً حتى الآن
كافة مركبات ووظائف الدم المعقدة.
وقد حاول بعض العلماء التوصل إلى
نواقل للأكسجين غير الكريات الحمر،
لكن دون نجاح أيضاً.
وهناك حالياً بعض التجارب
على أنواع من المنتجات الكيميائية
التي قد تساعد في حالات معينة.
وقد أمكن من جهة أخرى
بفضل تقنيات علم المورثات
إنتاج بروتينات دموية منها معاملات تدخل في التخثر.
ومع ذلك فلا تزال الطريقة الوحيدة لتعويض الدم
هي نقله من شخص آخر،
وفي حالة العمليات يفضّل أحياناً
تبرع المريض نفسه قبل العملية بدمه.
هل تملك كافة الكائنات الحيوانية الدم؟
لا. فمثلاً هناك كائنات حيوانية بسيطة جداً
مثل الإسفنجيات لا تملك خلاياها الدم،
لكنها تؤمن هي نفسها حاجتها من مؤن الأكسجين والغذاء.
ولم يظهر نظام التروية الفعال
في نقل هذه المواد إلى الخلايا الموزعة
في مختلف أنحاء الجسم إلا بعد مرحلة طويلة
من بداية الحياة على الأرض،
أي عندما أصبحت الحيوانات أكبر حجماً وتعقيداً.
وفي الواقع لم يصبح نظام التروية مغلقاً تماماً
في دائرة إلا مع الفقاريات.
ونعلم بالمقابل أن معظم الحيوانات
هي من اللافقاريات التي تشكل نحو 95% من الحيوانات.
واللافقاريات تملك دماً
لكنه يكون منحلاً في سائل موزع في الجسم.
وتوجد في هذا السائل ملونات
لعل المعروف بينها أكثر هو الهموغلوبين.
وهو الذي يعطي دم الحيوانات مظهره الأحمر.
لكننا نجد ملونات أخرى عند بعض الكائنات،
مثل نوع من السائل الدموي الأخضر عند نوع من الديدان
أو سائل دموي أزرق عند بعض أنواع الرخويات.
ولا نعلم الكثير عن كيفية بدايات تشكل كريات الهموغلوبين.
ويفترض العلماء أنه كان في البداية
عبارة عن جزيء مكلف بجمع الأكسجين.
ومن جهة أخرى،
فإن كافة الفقاريات باستثناء الثدييات
ـ أي الأسماك والطيور والزواحف
ـ تملك كريات حمر ذات نوى.
وعدم وجود هذه النواة في الرئيسيات العليا والبشر
يعني أن غيابها سمح للكرية الحمراء
بالمرور في أوعية دقيقة أدق وأكثر تطوراً.
ويرجح العلماء أن هذا التحول تم
عندما تمايزت الديناصورات والثدييات
منقول من مجموعة ابوليان البريدية
www.abuliyan.com